الترقيم الدولي المعياري للدوريات

Transcription

1 المجلد 11 العدد 2 صفر 1436 ه / ديسمبر 2014 م الترقيم الدولي المعياري للدوريات

2 استثمار المدخرات ودور الصكوك اإلسالمية في ذلك دراسة شرعية مقاصدية اقتصادية حسام الدين خليل محمد كلية قطر للدراسات اإلسالمية - جامعة حمد بن خليفة الدوحة - قطر تاريخ االستالم تاريخ القبول ملخص البحث يهدف هذا البحث إلى معالجة فقهية تجديدية لقضية )استثمار المدخرات( وهي قضية اقتصادية تعتبر من أهم ركائز التنمية في العالم مع بيان الدور الذي يمكن أن تؤديه الصكوك اإلسالمية في ذلك باعتبارها أحد أهم أدوات جذب المدخرات في العصر الحديث وذلك كله في ضوء نصوص الكتاب والسنة والمقاصد الشرعية والركائز االقتصادية. بدأ البحث بمقدمة تبي ن أهمية الموضوع وخطة تناوله ثم انتقل إلى بيان موقف الشريعة من اكتناز األموال ولو أديت زكاتها وخلص إلى أن حكم ذلك هو التحريم ثم انتقل إلى تسليط الضوء على منزلة االدخار واالستثمار في منظور الفقه االقتصادي اإلسالمي وخلص إلى أن حكم كل منهما: الوجوب ثم ختم بالكالم على أهمية الصكوك والدور الذي يمكن أن تؤديه في هذا الصدد مع بيان بعض اإلحصائيات والرسوم البيانية الذي توضح ذلك وتعضده. كلمات دالة على التخصص الدقيق: فقه معامالت صكوك ادخار استثمار. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 235

3 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) مقدمة: الحمد هلل رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أال إله إال هللا وحده ال شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى هللا عليه وسلم أما بعد: فيعتبر كل من االدخار واالستثمار والمنع من اكتناز األموال من الركائز األساسية في أي عملية تنمية اقتصادية فعلى قدر قدرة المجتمع على جذب مدخرات أفراده واستثمارها بكفاءة وفاعلية تتحدد سالمة اقتصاده وقوته. ومن المقرر اقتصاديا أن توجيه فوائض دخول األفراد إلى االستثمار يخلق طاقة إنتاجية جديدة في االقتصاد المحلي األمر الذي بدوره يؤدي إلى زيادة الدخل القومي مما ينعكس في شكل زيادة جديدة في دخول األفراد وهذا يعزز قدرتهم على االدخار ومن ث م االستثمار وهكذا دواليك... وهذا ما يسميه االقتصاديون بالحلقة المفرغة ويعلقون استقرار االقتصاد على ضمان استمرارها ويقولون إن أي اختالل في هذه الحلقة يؤدي إلى نتائج وخيمة على االقتصاد )1(. ومن هنا فقد حرص اإلسالم الحنيف وهو الدين الذي رضيه هللا لعباده ليكون منهجا للحياة بكل جوانبها االعتقادية والسياسية واالجتماعية واالقتصادية على أن يضم ن تشريعاته السامية مبادئ كلية وأحكاما عملية تكفل تحقيق هاتين الركيزتين وتهيئ لهما البيئة المناسبة. فدعا إلى االعتدال في اإلنفاق وحرم التبذير واإلسراف وحرم اكتناز األموال كما أوجب فيه فريضة الزكاة التي تدفع مالكه إلى استثماره وإال أتت عليه الزكاة عاما بعد عام فهيئ بذلك البيئة الحاضنة والحافزة للفرد المسلم على السلوك االدخاري االستثماري )2( كعملية مكملة لالدخار ال غنى عنها تمثل وجهه اآلخر. وهذا على العكس مما عليه الحال في االقتصاد الوضعي إذ الرأسمالية ترخي للفرد العنان في ماله ليفعل ما يحلو له بينما االشتراكية تصادر حقه في التصرف في ماله ألنها ال تعترف بحقه في التملك أصال )3(. ولما كانت الصكوك أحد المنتجات المالية اإلسالمية المبتكرة التي لها دور فعال في جذب المدخرات واستثمارها ومن ث م تحقيق التنمية واالزدهار فقد اخترت أن أفرد بحثا مختصرا يسهم في تجلية موقف الفقه اإلسالمي ومقاصد الشريعة الغراء من قضايا االكتناز واالدخار واالستثمار وهي ركائز أساسية في مجال استثمار المدخرات مع بيان الدور الفعال الذي يمكن أن تؤديه الصكوك في ذلك والسيما وهناك نقاش حول جدوى الصكوك اإلسالمية في هذا المضمار )4(. مشكلة البحث: تكمن مشكلة البحث في أن المقرر المعتمد في كتب الفقه التراثي الذي سطره علماؤنا األعالم في مسائل االكتناز واالدخار واالستثمار قد كتب في ظروف اقتصادية مغايرة لما عليه واقعنا اآلن وأصبح ال يتناسب مع حاجات ومتطلبات االقتصاد اإلسالمي الالزمة اليوم إلحداث نهضة اقتصادية حقيقية. والسيما وأن األدلة من الكتاب والسنة تدل على أكثر مما هو معتمد مشهور في 236 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 236

4 حسام الدين خليل محمد ( ) كتب المذاهب الفقهية مما يستلزم معه إعادة النظر في هذه القضايا بما يتناسب مع متطلبات الواقع االقتصادي المعيش ويتفق مع مقاصد الشريعة التي هدفت إلى تحقيقها في المجال االقتصادي في حياة المسلمين و ربط ذلك بآليات عملية مثل الصكوك اإلسالمية التي يمكن أن تمثل نموذجا تتحقق بها الرؤية الشرعية في هذا المجال. الدراسات السابقة واإلضافة الجديدة: ال أنكر أن هناك بعض الدراسات التي تناولت موضوعات االدخار واالستثمار مثل كتاب:»المدخرات أحكامها وطرق تكوينها واستثمارها في الفقه اإلسالمي«للدكتور قطب مصطفى سانو )5( وكذلك بحث:»استثمار المدخرات«ورقة مقدمة لمؤتمر التأمين والمعاشات..«واقع وآفاق«)6( للدكتور ماهر الحولي وبحث»استثمار األموال في القرآن والسنة«للدكتور نايل ممدوح أبو زيد )7(. فهذه الدراسات -على فضلها- لم تعرض الموضوع من الناحية االقتصادية المقاصدية ولم تستدل له على النحو الذي قدمته ولم تربطه بالحديث عن الصكوك االستثمارية التي تمثل آلية عملية يتعاون من خاللها األفراد والحكومات على االدخار واالستثمار وتحقيق التنمية ولم تبين ضوابطها الشرعية والمزايا االقتصادية التي يجب أن تتوفر فيها. خطة البحث: سوف أتناول موقف النظام االقتصادي في اإلسالم من قضايا االكتناز واالدخار واالستثمار ثم أتبع ذلك بالحديث عن دور الصكوك في جذب واستثمار المدخرات على نحو فع ال وذلك من خالل ثالثة مطالب: المطلب األول: تحريم اكتناز األموال. المطلب الثاني: منزلة االدخار واالستثمار في الفقه االقتصادي اإلسالمي. ويشتمل على فرعين: الفرع األول: منزلة االدخار في الفقه االقتصادي اإلسالمي. الفرع الثاني: منزلة استثمار المدخرات في الفقه االقتصادي اإلسالمي. المطلب الثالث: دور الصكوك االستثمارية في جذب المدخرات واستثمارها. ويشتمل على ثالثة فروع: الفرع األول: الصكوك.. حقيقتها وعالقتها باألوراق المالية األخرى. الفرع الثاني: مشروعية الصكوك وضوابطها. الفرع الثالث: دور الصكوك اإلسالمية في جذب المدخرات وكيفية تفعيلها اقتصاديا. خاتمة تتضمن أهم نتائج البحث وأهم التوصيات. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 237

5 238 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) المطلب األول: تحريم اكتناز األموال لما كان اكتناز األموال )Hoarding( عائقا من عوائق جذب المدخرات لالستثمار وقد يشتبه عند البعض باالدخار )Saving( وتحريمه جزء ال يتجزأ من نظرة اإلسالم الكلية لالدخار واالستثمار كعمليتين متكاملتين ناسب ذلك أن نسلط عليه بعض الضوء. االكتناز في اللغة: مشتق من الكنز قال ابن فارس: «الكاف والنون والز اي أصيل صحيح يدل على تجمع في شيء«)8(. يفهم من هذا أن الكنز في اللغة: هو كل شيء ج م ع بعضه إلى بعض سواء أكان في بطن األرض أم على ظهرها واكتنازه يعني جمعه وإمساكه وهو ما تؤك ده المعاجم اللغوية األخرى )9(. أما االكتناز في المصطلح الشرعي أي الذي جاء الوعيد به في قوله تعالى: و ال ذ ين ي ك ن ز ون الذ ه ب و ال ف ض ة و ال ي ن ف ق ون ه ا ف ي س ب يل هللا ف ب ش ر ه م ب ع ذ اب أ ل يم * ي و م ي ح م ى ع ل ي ه ا ف ي ن ار ج ه ن م ف ت ك و ى ب ه ا ج ب اه ه م و ج ن وب ه م و ظ ه ور ه م ه ذ ا م ا ك ن ز ت م أل ن ف س ك م ف ذ وق وا م ا ك ن ت م ت ك ن ز ون )التوبة 34 35( فقد اختلف الفقهاء في تحديد معناه على خمسة أقوال: القول األول: أن الكنز هو كل مال لم تؤد زكاته ظاهرا كان على وجه األرض أو باطنا مدفونا فيها وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة )10( وبه قال جمع من الصحابة منهم: عبد هللا ابن عمر )11( وعبد هللا ابن عباس وجابر وأبي هريرة رضي هللا عنهم أجمعين )12(. واحتجوا على تخصيص الكنز بما لم تؤد زكاته بأن اآلية المذكورة كانت قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت نسخت تحريم جمع المال وجعلها هللا طهرة لألموال )13(. ولكن نوقش ذلك بما قاله العالمة ابن عاشور بأن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه اآلية )14( فال تصح إذن دعوى النسخ ولهذا قال ابن الجوزي: «وقد زعم بعض نقلة التفسير: أنه كان يجب عليهم إخراج ذلك في أول اإلسالم ثم نسخ بالزكاة وفي هذا القول بعد«)15( وقال السخاوي:»والصحيح أي و ال ذ ين ي ك ن ز ون الذ ه ب و ال ف ض ة - أنها محكمة غير منسوخة«)16(. واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود والحاكم عن اب ن ع ب اس ق ال : ل م ا ن ز ل ت ه ذ ه اآلي ة : و ال ذ ين ي ك ن ز ون الذ ه ب و ال ف ض ة ق ال : ك ب ر ذ ل ك ع ل ى ال م س ل م ين ف ق ال ع م ر - ر ض ي هللا ع ن ه -: أ ن ا أ ف ر ج ع ن ك م ف ان ط ل ق ف ق ال : ي ا ن ب ي هللا إ ن ه ك ب ر ع ل ى أ ص ح اب ك ه ذ ه اآلي ة ف ق ال ر س ول هللا - ص ل ى هللا ع ل ي ه و س ل م -:»إ ن هللا ل م ي ف ر ض الز ك اة إ ال ل ي ط ي ب م ا ب ق ي م ن أ م و ال ك م و إ ن م ا ف ر ض ال م و ار يث ل ت ك ون ل م ن ب ع د ك م «ف ك ب ر ع م ر ث م ق ال ل ه :»أ ال أ خ ب ر ك ب خ ي ر م ا ي ك ن ز ال م ر ء ال م ر أ ة الص ال ح ة إ ذ ا ن ظ ر إ ل ي ه ا س ر ت ه و إ ذ ا أ م ر ه ا أ ط اع ت ه و إ ذ ا غ اب ع ن ه ا ح ف ظ ت ه «)17(. وقد صححه الحاكم والنووي )18(. لكن نوقش االستدالل بهذا الحديث بأنه حديث ضعيف ال ينهض لالستدالل وضعفه من وجهين: األول: أن فيه جعفر بن إياس )أبا ب ش ر( فإنه وإن وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وقد احتج به الجماعة إال أن شعبة قال: حديثه عن مجاهد من صحيفة - يعني أنه لم يسمع منه - وحديثه هنا هو من روايته عن مجاهد عن ابن عباس )19(. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 238

6 حسام الدين خليل محمد ( ) الثاني: أن في طرق الحديث األخرى: ما يبين أنه حدث سقط في أحد الرواة بين غيالن بن جامع وجعفر بن إياس وهو: عثمان بن عمير أبو اليقظان. ولهذا قال البيهقي عقب رواية الحديث:»قصر به بعض الرواة فلم يذكر في إسناده عثمان أبا اليقظان«)20(. وعثمان بن عمير أبو اليقظان ضعيف قال الحافظ ابن حجر:»ضعيف واختلط وكان يدلس«)21(. )22( ولذا ضع ف الحديث الشيخ شعيب وزمالؤه في تحقيق المسند في أثناء التعليق على حديث آخر وكذلك ضعفه األلباني وأفاض في بيانه في السلسلة الضعيفة )23(. القول الثاني: أنه المال الذي لم تؤد منه الزكاة والحقوق الواجبة كإطعام الجائع وفك األسير وغير ذلك من الواجبات المتعلقة بالمال وحجة هذا القول هي نفس حجة القول السابق مع قياس غير الزكاة من النفقات الواجبة في المال على الزكاة وإلى هذا ذهب اإلمام الرازي في تفسيره واحتج له بأن: «تخصيص هذا المعنى أي االكتناز- بمنع الزكاة ال سبيل إليه بل الواجب أن يقال: الكنز هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه عنه وال فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق واإلنفاق على األهل أو العيال وضمان المتلفات وأ ر وش الجنايات فيجب في كل هذه األقسام أن يكون داخال في الوعيد«)24(. القول الثالث: أن الكنز هو كل مال مجموع بعضه إلى بعض زائدا عن حاجة صاحبه سواء أكان مدفونا في األرض أم على ظهرها )25( وإلى هذا ذهب الصحابي الجليل: أبو ذر الغفاري -رضي هللا عنه- )26(. وحجة هذا القول هي االعتماد على المعنى اللغوي للكنز وعموم اآلية إذ ظاهرها المنع من حبس المال مطلقا سواء أديت زكاته أم ال )27(. ونوقش ذلك بأنه كان في زمان الرسول عليه الصالة والسالم جماعة من األغنياء كعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي هللا عنهما - وكان عليه السالم يعدهما من أكابر المؤمنين وأن الشرع ندب إلى الوصية في حدود الثلث )28( ولو كان جمع المال محرما لكان عليه السالم أقر المريض بالتصدق به كله بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك )29(. واست دل لهذا القول أيضا بما رواه اإلمام أحمد في مسنده عن علي رضي هللا عنه أنه»م ات ر ج ل م ن أ ه ل الص ف ة و ت ر ك د ين ار ي ن أ و د ر ه م ي ن ف ق ال ر س ول هللا ص ل ى هللا ع ل ي ه و س ل م : «ك ي ت ان ص ل وا ع ل ى ص اح ب ك م «)30(. ونوقش ذلك بأنه حديث ضعيف قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «فيه عتيبة الضرير وهو مجهول وبقية رجاله وثقوا«)31( وضعفه الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند بنفس العلة التي ذكرها الهيثمي )32(. وعلى فرض صحة هذا الحديث فال يدل على تحريم جمع المال إذ غايته كما يدل عليه سياقه أن من أظهر الفقر والحاجة كأهل الصفة وهو في حقيقة األمر ليس كذلك فهو متوعد بهذا الوعيد المذكور نظرا لتلبيسه وتدليسه. القول الرابع: أنه كل مال مدفون خاصة سواء أديت زكاته أم ال )33(. والظاهر أن مستند هذا القول هو قوله تعالى: و ك ان ت ح ت ه ك ن ز ل ه م ا )الكهف: 82( ولكن يناقش بأن معنى الكنز لغة ال شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 239

7 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) ينحصر فيما دفن فهو يعم كل مال جمع بعضه إلى بعض كما تقدم. القول الخامس: أنه كل مال محبوس من غير فائدة وهو ظاهر ما روي عن علي رضي هللا عنه - «أربعة آالف درهم فما دونها»نفقة«فما كان أكثر من ذلك فهو»كنز«)34(. وقد رجح كثير من العلماء )35( القول األول الذي ذهب إليه الجمهور وهو أن االكتناز يطلق على األموال التي لم تؤد زكاتها ال على مجرد اقتنائها وامساكها. وقد يرد هنا تساؤل لو افترضنا أن هناك رجال لديه نقود يخرج منها زكاتها بل والنفقات الواجبة أيضا ولكنه يحبسها عن االستثمار قصدا ال بنية التريث والتحين بها الفرصة المناسبة لالستثمار فهل ي عد فعله هذا نوعا من االكتناز. الظاهر من مفهوم االكتناز الذي عليه الجمهور أن هذا الفعل ال ي عد كذلك لكن إذا دققنا النظر يمكن اعتبار حبس المال - ولو أديت زكاته وما وجب فيه لغير غرض صحيح نوعا من االكتناز كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم فيما ذكره القرطبي )36( ونقله عن علي بن أبي طالب رضي هللا عنه - وذهب إليه كذلك أبو حامد الغزالي )37( وهو ظاهر قول الشيخ الشعراوي )38( من المفسرين المعاصرين ورجحه كثير من الباحثين )39( بل يكاد أن يكون هو قول معظم االقتصاديين المسلمين اليوم )40( وذلك لعدة اعتبارات: االعتبار األول: أن معنى االكتناز في اللغة العربية وهي اللغة التي نزل بها القرآن يشمل حبس المال وتخزينه وقد تقدم النقل بذلك عن المعاجم اللغوية ولم ينهض دليل على تخصيص هذا المعنى بما لم ت خ رج منه الزكاة والنفقات الواجبة. االعتبار الثاني: أن المقصود من إنعام هللا تعالى على عبده باألموال أن يستخدمها لمصلحته ولمصلحة اآلخرين في الحدود التي أباحها هللا تعالى فحبس تلك األموال وتعطيلها عن االنتفاع الشخصي بها من خالل تنميتها واستثمارها وحرمان المجتمع كذلك من ثمرات هذا االستثمار هو إبطال لهذا المقصود اإللهي وال يقال أن حق المجتمع فقط هو الزكاة ألن الحق المتعلق بالمال أعم من الزكاة ويؤي د ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم -: م ا م ن ص اح ب ذ ه ب و ال ف ض ة ال ي ؤ د ي م ن ه ا ح ق ه ا إ ال إ ذ ا ك ان ي و م ال ق ي ام ة ص ف ح ت ل ه ص ف ائ ح م ن ن ار رواه مسلم )41( وفي رواية للبخاري )42( : ت أ ت ي اإل ب ل ع ل ى ص اح ب ه ا ع ل ى خ ي ر م ا ك ان ت إ ذ ا ه و ل م ي ع ط ف يه ا ح ق ه ا ت ط ؤ ه ب أ خ ف اف ه ا إلى أن ق ال : و م ن ح ق ه ا أ ن ت ح ل ب ع ل ى الم اء قال ابن بطال: «واختلفوا في تأويل قوله - صلى هللا عليه وسلم- في اإلبل: )ومن حقها أن تحلب على الماء( فذهبت طائفة إلى أن في المال حقا سوى الزكاة«)43(. وسياق الحديث يشهد لما ذهبت إليه هذه الطائفة من أهل العلم إذ السياق وارد في إثم مانع الزكاة ومع ذلك بي ن أن فيها حقا آخر غير الزكاة. فهذا يدل على أن الحق المتعلق بالمال أعم من الزكاة ويمكن أن يدخل فيه حق الجماعة في حركة األموال استثمارها- حتى تعود عليها بالخير ألن في كنز األموال ضررا يلحق باألمة. وفي توضيح ذلك يقول العالمة ابن عاشور:»قد تقرر عند علمائنا أن حفظ المال من قواعد كليات الشريعة الراجعة إلى قسم الضروري. ويؤخذ من كالمهم أن نظام نماء األموال استثمارها- و طرق دورانها هو معظم مسائل الحاجيات كالبيع واإلجارة والسلم... و أن مال األمة لما كان كال 240 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 240

8 حسام الدين خليل محمد ( ) مجموعيا فحصول حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه وضبط أساليب حفظ أموال األفراد و أساليب إدارتها فإن حفظ المجموع يتوقف على حفظ جزئياته وإن معظم قواعد التشريع المالي متعلقة بحفظ أموال األفراد وائلة إلى حفظ مال األمة ألن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة األمة فاألموال المداولة بأيدي األفراد تعود منافعها على أصحابها وعلى األمة كلها لعدم انحصار الفوائد المنجرة إلى المنتفعين بدوالها. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: و ال ت ؤ ت وا الس ف ه اء أ م و ال ك م ال ت ي ج ع ل هللا ل ك م ق ي ام ا )النساء: 5( فالخطاب لألمة أو والة األمر منها. وأضاف األموال إلى ضمير غير مالكيها ألن مالكيها هنا هم السفهاء المنهي عن إيتائهم إياها. وقوله ال ت ي ج ع ل هللا ل ك م ق ي ام ا يزيد الضمير وضوحا ويزيد الغرض تبيانا إذ وصف األموال بأنها مجعولة قياما ألمور األمة. فالمال الذي يدال بين األمة )44( ينظر إليه على وجه الجملة وعلى وجه التفصيل. فهو على وجه الجملة حق لألمة عائد عليها بالغني عن الغير. فمن شأن الشريعة أن تضبط نظام إدارته بأسلوب يحفظه موزعا بين األمة بقدر المستطاع وتعين على نمائه في نفسه أو بأعواضه بقطع النظر عن كون المنتفع به مباشرة أفرادا خاصة أو طوائف أو جماعات صغرى أو كبرى. وينظر إليه على وجه التفصيل باعتبار كل جزء منه حقا راجعا إلى مكتسبه«)45(. ويقول الشيخ الشعراوي في ذات المعنى الذي أشار إليه ابن عاشور:»فالحق سبحانه وتعالى في هذه اآلية الكريمة أي و ال ذ ين ي ك ن ز ون الذ ه ب و ال ف ض ة - أراد أن يلفتنا إلى أن الذهب والفضة هما أساس التعامل في تسيير حركة العالم االقتصادية وأن هذا التعامل يقتضي الحركة الدائمة للمال ألن وظيفة المال هي االنتفاع به في عمارة األرض ولو أنك لم تحرك مالك وكنت مؤمنا فإنه ينقص كل عام بنسبة 2.5% وهي قيمة الزكاة. ولذلك يفنى هذا المال في أربعين سنة. فإن أراد المؤمن أن ي ب قي على ماله فيجب أن يديره في حركة الحياة ليستثمره وينميه وال يكنزه حتى ال تأكله الزكاة وهي نسبة قليلة ت دف ع من المال. ولكن إذا أدار صاحب المال ما يملكه في حركة الحياة فسينتفع به الناس وإن لم يقصد أن ينفعهم به ألن الذي يستثمر أمواله مثال في بناء عمارة ليس في باله إال ما سيحققه من ربح لذاته ولكن الناس ينتفعون بهذا المال ولو لم يقصد هو نفعهم )46( فمن وضع األساس يأخذ أجرا ومن جاء بالطوب يأخذ قدر ثمنه... «وفي تصديق كالم كل من الشيخين ابن عاشور والشعراوي رحمهما هللا - يقول الدكتور يوسف حامد العالم في كتابه»المقاصد العامة للشريعة اإلسالمية«:»الفائدة التي تعود بها حركة األموال على األفراد والجماعة واألمة بل العالم كله ظاهرة ال تخفى لكل ذي عينين ولسان وشفتين فوضع األموال في حقل الزراعة أو الصناعة أو التجارة يعود على أفراد األمة وجماعاتها بشتى المنافع التي ال تحصل مع كنزها )47(. االعتبار الثالث: أن من الحكم والمقاصد العظيمة إليجاب اإلسالم الزكاة في كل مال بلغ النصاب الشرعي- إضافة إلى سد حاجة الفقراء والمساكين وتحقيق التكافل االجتماعي في أرقى صوره- أن تدفع الزكاة كل اإلنسان إلى توجيه كل ما يملكه من أموال نحو االستثمار-حتى ال تأكله الزكاة وبذلك تخرج النقود المعطلة من حيز االكتناز وتوجه نحو ميادين اإلنتاج والنشاط االقتصادي. وفي إيضاح ذلك يقول محمد باقر الصدر:»منع اإلسالم من اكتناز النقد وذلك عن طريق فرض شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 241

9 242 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) ضريبة الزكاة على النقد المجمد بصورة تتكرر في كل عام حتى تستوعب النقد المكتنز كله تقريبا إذا طال اكتنازه عدة سنين. ولهذا يعتبر القرآن اكتناز الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار ألن االكتناز يعني بطبيعة الحال التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعا ألن هذه الضريبة لدى أدائها ال تفسح مجاال أمام النقد للتجمع واالكتناز فال غرو إذا هدد القرآن الذين يكنزون الذهب والفضة وتوعدهم بالنار وعن هذا الطريق ضمن اإلسالم بقاء المال في مجاالت اإلنتاج والتبادل واالستهالك وحال دون تسلله إلى صناديق االكتناز.. «)48(. فإذا راعينا ضرورة تحقق هذا المقصد الذي هو أحد المقاصد التي هدف إليها اإلسالم من تشريع الزكاة لم نجد بدا من القول بأن حبس المال عاريا عن االنتفاع الشخصي أو العام داخل في مسمى االكتناز ولو أديت زكاته. االعتبار الرابع: أن حبس النقود يؤدي إلى خلل في وظائف النقود الحيوية مما يلحق أضرارا عظيمة باالقتصاد فهو يحدث خلال في وظيفتها األولى المتمثلة في الوساطة النقدية بين االستهالك واإلنتاج كما أنه يحدث خلال آخر في وظيفتها الثانية وهي أنها مقياس للقيم واألثمان )49( مما يؤدي في النهاية إلى كساد اقتصادي خطير. وهذا المعنى قد أشار إليه اإلمام أبو حامد الغزالي بوضوح حيث يقول:»خلق هللا تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر األموال حتى تقدر األموال بهما.. ويكونا حاكمين بين األموال بالعدل.. فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه«)50(. ووجه تشبيه اإلمام الغزالي أن الحاكم كما أنه يقضي بين المسلمين فيما يختلفون فيه فكذلك النقود تحكم بينهم في قيم السلعة. االعتبار الخامس: أن هللا تعالى يأمر المسلم باإلنفاق في سبيله مما أتاه هللا )51( كما في قوله تعالى: آم ن وا ب اهلل و ر س ول ه و أ ن ف ق وا م م ا ج ع ل ك م م س ت خ ل ف ين ف يه ف ال ذ ين آم ن وا م ن ك م و أ ن ف ق وا ل ه م أ ج ر ك ب ير )الحديد: 7(. وهذا اإلنفاق مضاد لالكتناز كما دل عليه قوله تعالى: و ال ذ ين ي ك ن ز ون الذ ه ب و ال ف ض ة و ال ي ن ف ق ون ه ا ف ي س ب يل هللا وسبيل هللا الذي أنذرت اآلية الذين ال ينفقون أموالهم فيها ذلك اإلنذار الرهيب هي نشر الدعوة وحماية اإلسالم والمسلمين من البغي والعدوان وتوفير الكرامة والعزة والحرية لكل مسلم وليست محصورة فقط في أداء الزكاة وهذا المعنى ال يحصل مع اكتناز الثروات بعيدة عن ميادين التنمية واالستثمار. ولذا استنبط اإلمام محمد بن الحسن الشيباني من وجوب أمر هللا تعالى اإلنفاق في سبيله وجوب السعي والكسب بما يشمل االستثمار واإلنتاج واستدل عليه بقوله تعالى: ي ا أ ي ه ا ال ذ ين آم ن وا أ ن ف ق وا م ن ط ي ب ات م ا ك س ب ت م )البقرة: 267( فقال:»واألمر حقيقة للوجوب وال يتصور اإلنفاق من المكسوب إال بعد الكسب اإلنتاج واالستثمار- وما ال يتوصل إلى إقامة العبادة إال به وال يتوصل إلى إقامة الفرض إال به يكون فرضا وقال تعالى ف إ ذ ا ق ض ي ت الص الة ف ان ت ش ر وا ف ي األ ر ض )الجمعة: 11( اآلية يعني الكسب واألمر حقيقة للوجوب«)52(. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 242

10 حسام الدين خليل محمد ( ) فاألمر باإلنفاق في سبيل هللا يستلزم أمر الجماعة بأن تنتج وتقيم المشاريع وتحقق التنمية وتوفر فرص العيش الكريمة ألفرادها حتى تلبى الحاجات وتشبع المطالب وتستطيع أن تقوم بتنفيذ هذا األمر اإللهي. في ضوء هذه االعتبارات السابقة: يرى الباحث أن المعنى الشرعي لالكتناز يتسع ليشمل كل مال محبوس عن االستثمار بال فائدة على صاحبه أو على المجتمع ولو أديت زكاته وهذا له أثره في إيضاح أهمية الصكوك االستثمارية لما تؤديه من دور في جذب األموال المدخرة وإخراجها من حيز االكتناز والتشجيع على االستثمار بما يتوافق مع مرمى الشريعة في هذا الجانب. المطلب الثاني: منزلة االدخار واالستثمار في الفقه االقتصادي اإلسالمي استعرضت فيما سبق موقف اإلسالم من اكتناز األموال وبي نت حكمة ذلك وقد فهم بعض الباحثين )53( من تحريم اكتناز األموال أن اإلسالم يحرم االدخار وهذا غير صحيح ألن هناك فرقا كبيرا بينهما فاالدخار جزء يقتطع من الدخل يلتزم صاحبه بأداء زكاته ثم يوجه إلى االستثمار حتى ال تأكله الزكاة أما االكتناز فيعني حبس المال ومنع زكاته كما يعني أيضا إبقاءه بغير تنمية عاطال عن نفع صاحبه أو نفع المجتمع. ولهذا في حين ينهى اإلسالم عن االكتناز يأمر اإلسالم المسلم باالدخار الالزم لنهضة أي مجتمع وقوة أي اقتصاد وفيما يأتي أسوق باختصار بعض األدلة التي يتجلى فيها ذلك بوضوح وذلك من خالل فرعين: الفرع األول: منزلة االدخار في الفقه االقتصادي اإلسالمي. الفرع الثاني: منزلة استثمار المدخرات في الفقه االقتصادي اإلسالمي. الفرع األول: منزلة االدخار في الفقه االقتصادي اإلسالمي االدخار لغة: االدخار مصدر للفعل ادخر واألصل فيه اذتخر فقلبوا التاء داال لقرب مخرجها منها وأدغموا الذال في الدال وكذلك يفعلون في نظائرها )54( يقال في الشيء إذا خبأ واتخذ لوقت الحاجة )55( وقد عر فه في المعجم الوسيط بأنه: «االحتفاظ بجزء من الدخل للمستقبل«)56(. االدخار اصطالحا: مصطلح )االدخار( من المصطلحات التي تعددت بشأنها وجهات النظر بما ال يتسع المجال لعرضه هنا وأدق هذه التعريفات وأشملها هو تعريف مجلة البنوك اإلسالمية حيث عرفت االدخار بأنه:»اقتطاع جزء من الدخل بشرط أن يأخذ طريقه إلي االستثمار«)57( إذ يتضمن التنصيص على أن مآل الجزء المقتطع هو االستثمار وهذا القيد له أهمية قصوى إذ به يفترق االدخار عن االكتناز وهذا له دوره الرئيس في تحديد الحكم الشرعي لالدخار كما أنه يوضح مدى االرتباط والتكامل الوظيفي بين االدخار واالستثمار في المنظور اإلسالمي. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 243

11 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) الحكم التكليفي لالدخار: اتفقت المذاهب الفقهية األربعة )58( على أن الحكم التكليفي الدخار األفراد في أصله -من حيث المبدأ- هو اإلباحة وقد است دل لذلك بأدلة كثيرة منها أن األصل في المعامالت اإلباحة ما لم يرد في الشرع نص حاظر )59( وأن االدخار عند األمم السابقة كان مباحا كما قصه هللا تعالى في كتابه حاكيا عن عيسى عليه الصالة والسالم- أنه قال: و أ ن ب ئ ك م ب م ا ت أ ك ل ون و م ا ت د خ ر ون ف ي ب ي وت ك م )أل عمران: 50( وكما حكاه هللا تعالى عن نبيه يوسف أنه قال لقومه: ق ال ت ز ر ع ون س ب ع س ن ين د أ ب ا ف م ا ح ص د ت م ف ذ ر وه ف ي س ن ب ل ه إ ال ق ل يال م م ا ت أ ك ل ون )يوسف: 47( والصحيح أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه )60( ولم يرد في شرعنا ما يخالفه بل ورد ما يؤيده كما في صحيح البخاري عن عمر- رضي هللا عنه-: أ ن الن ب ي - ص ل ى هللا ع ل ي ه و س ل م - ك ان ي ب يع ن خ ل ب ن ي الن ض ير و ي ح ب س أل ه ل ه ق وت س ن ت ه م )61(.. لكن إذا تأملنا األدلة األخرى من القرآن والسنة نجد أن شرعنا لم يكتف بإبقائه في دائرة اإلباحة التي كان عليها في األمم الغابرة -على فرض أنه كان عندهم مباحا فقط- إنما نقله إلى دائرة الوجوب كما ذهب إليه كثير من الباحثين )62(. وإنما لم يعتمد فقهاء المذاهب ذلك قديما بالنسبة لألفراد ألن بيت مال المسلمين سابقا كان يقوم بكل حاجات الناس وكانت الحياة بسيطة ال تحتاج للتكاليف االقتصادية الضخمة الخاصة بالصحة والتعليم والتسلح وتهيئة الطرق وإقامة الكباري والسدود ونحو ذلك وكان كثير من حاجات المجتمع ينفق عليها من األوقاف التي تعطل وتراجعت كثيرا في عصرنا بسبب القوانين الجائرة وتدخل الدولة الحديثة في كل مفاصل الحياة )63( وعلى فرض نزول حاجة بالمسلمين فقد كان أغنياؤهم يقومون بحاجة فقرائهم. مما يدل على ذلك أن الفقهاء اختلفوا في حكم زيادة أموال بيت مال المسلمين عن حاجته ومصارفه فذهب بعضهم إلى وجوب ادخار الفائض لنوائب المسلمين وذهب بعضهم إلى وجوب توزيعه على المسلمين ألنه إذا ألمت نازلة فالمسلمون متضامنون متكافلون فيها و في هذا يقول أبو يعلى الحنبلي: «وإذا فضلت حقوق بيت المال عن مصرفها فقد قيل: إنها تدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث وقيل: إنها تفرق على من يعم به صالح المسلمين وال تدخر ألن النوائب يتعين فرضها عليهم إذا حدثت«)64( ونجد هذا المعنى أيضا عند الماوردي الشافعي وزاد نسبة القول بوجوب االدخار على الدولة إلى أبي حنيفة ووجوب توزيع المال وعدم االدخار إلى الشافعي«)65(. فهذا يدل أن السبب الذي ألجله تبنى فقهاؤنا اإلعالم القول بإباحة االدخار بالنسبة لألفراد أنهم رأوا أن بيت مال المسلمين قائم بحاجاتهم بل ربما يفيض في بعض األوقات هذا مع ازدهار األوقاف في عصرهم حتى كان هناك وقف للمدارس ووقف للمستشفيات ووقف لرصف الطرق ووقف لتزويج البنات.. الخ )66(. وفيما يأتي بعض الدالئل التي تؤك د وجوب االدخار مطلقا كسلوك اقتصادي يجب أن يمارسه الفرد والمجتمع والدولة. الدليل األول: قال تعالى: و ال ذ ين إ ذ ا أ ن ف ق وا ل م ي س ر ف وا و ل م ي ق ت ر وا و ك ان ب ي ن ذ ل ك ق و ام ا )الفرقان: 67(. 244 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 244

12 حسام الدين خليل محمد ( ) قال ابن كثير:»أ ي : ل ي س وا ب م ب ذ ر ين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة وال بخالء على أهليهم فيقصرون في حقهم فال يكفونهم بل عدال خيارا وخير األمور أوسطها«)67(. وجه الداللة من اآلية: أن هذا التوسط في اإلنفاق بين اإلسراف واإلقتار الذي يتميز به عباد الرحمن يستلزم عدم إنفاق كل الدخل واستبقاء بعضه وهو ما يسمى بعملية االدخار. الدليل الثاني: قال تعالى: ك ل وا م ن ث م ر ه إ ذ ا أ ث م ر و آت وا ح ق ه ي و م ح ص اد ه و ال ت س ر ف وا إ ن ه ال ي ح ب ال م س ر ف ين )األنعام: 141(. وجه الداللة من اآلية: أنها انتظمت ثالثة أمور لها أهميتها ووزنها في عالم االقتصاد )68( : األمر األول: خاص باالستهالك وإشباع الحاجات وهو قوله تعالى: ك ل وا م ن ث م ر ه إ ذ ا أ ث م ر. األمر الثاني: خاص بالتوزيع العادل للثروة وهو قوله و آت وا ح ق ه ي و م ح ص اد ه. األمر الثالث: خاص باالدخار وهو قوله تعالى: و ال ت س ر ف وا إ ن ه ال ي ح ب ال م س ر ف ين. إذ تحريم اإلسراف يستلزم االدخار. الدليل الثالث: قال تعالى: و ال ت ج ع ل ي د ك م غ ل ول ة إ ل ى ع ن ق ك و ال ت ب س ط ه ا ك ل ال ب س ط ف ت ق ع د م ل وم ا م ح س ور ا )اإلسراء: 29(. رسمت اآلية للمسلم منهجا لإلنفاق يقوم على التوسط بين البخل والتبذير وادخار شيء من دخله قال الرازي:»وال تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي ال تمسك عن اإلنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك.. وال تبسطها كل البسط أي وال تتوسع في اإلنفاق توسعا مفرطا بحيث ال يبقى في يدك شيء. وحاصل الكالم: أن الحكماء ذكروا في كتب»األخالق«أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان فالبخل إفراط في اإلمساك والتبذير إفراط في اإلنفاق وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى: و ك ذ ل ك ج ع ل ن اك م أ م ة و س ط ا )البقرة: 143(«)69(. ووجه الداللة من اآلية الكريمة: أنه إذا كان اإلسالم يحر م كال من البخل والتبذير وينهى المسلم عن إنفاق كل ما في يده فإن الزم ذلك األمر باالدخار اإليجابي الذي ال يمنع اإلنسان من التمتع بالطيبات. الدليل الرابع: قوله تعالى: و ال ت ب ذ ر ت ب ذ ير ا * إ ن ال م ب ذ ر ين ك ان وا إ خ و ان الش ي اط ين و ك ان الش ي ط ان ل ر ب ه ك ف ور ا )اإلسراء.)27 :26 قال الس د ى في قوله تعالى: و ال ت ب ذ ر ت ب ذ ير ا :»ال تعط مالك ك ل ه «)70(»فتقعد ب غ ي ر ش ي ء«)71( أي أن استبقاء شيء من الدخل االدخار- أمر مقصود شرعا. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 245

13 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) وقد دلت اآلية على أن التبذير من أعمال الشيطان والتجارب التاريخية )72( كلها تشهد بأن التبذير واإلسراف واستنزاف موارد الشعوب وثرواتها كان من أهم أسباب هالك األمم ودمار الحضارات. الدليل الخامس: وعن ك ع ب ب ن م ال ك -ر ض ي هللا ع ن ه - أنه قال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم-: ي ا ر س ول هللا إ ن م ن ت و ب ت ي أ ن أ ن خ ل ع م ن م ال ي ص د ق ة إ ل ى هللا و إ ل ى ر س وله - ص ل ى هللا ع ل ي ه و س ل م - ق ال :»أ م س ك ع ل ي ك ب ع ض م ال ك ف ه و خ ي ر ل ك «)73(. دل الحديث على أنه ال ينبغي لإلنسان أن ينفق ماله كله ولو كان الداعي إلى ذلك هو الصدقة بل عليه أن يستبقي بعضه وهذا يعني االدخار. الدليل السادس: وعن أبي ه ر ي ر ة - ر ض ي هللا ع ن ه - ع ن الن ب ي - ص ل ى هللا ع ل ي ه و س ل م - ق ال : خ ي ر الص د ق ة م ا ك ان ع ن ظ ه ر غ ن ى و اب د أ ب م ن ت ع ول )74(. قال الخطابي:»وقوله - صلى هللا عليه وسلم- خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى أي عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب التي تنوبه كقوله في حديث آخر خير الصدقة ما أبقت غنى وفي الحديث من الفقه أن االختيار للمرء أن يستبقي لنفسه قوتا وأن ال ينخلع من ملكه أجمع«)75(. وهذا االستبقاء الذي أشار إليه الخطابي ال يتحقق إال باالدخار. كانت هذه بعض األدلة التي تسلط الضوء على المنزلة الكبرى التي يحتلها االدخار في الفقه االقتصادي في اإلسالم وتؤك د أن حكمه هو الوجوب وهي كلها متضافرة متعاضدة على إثبات ذلك المعنى وفي الفرع التالي أذكر بعض األدلة التي تكم ل ذلك وتكشف عن التكامل الوظيفي بين االدخار واالستثمار. الفرع الثاني: منزلة استثمار المدخرات في الفقه االقتصادي اإلسالمي تقدمت بعض األدلة التي تدل على تحريم اكتناز المال وتعطيله عن االستثمار والزم ذلك هو وجوب االستثمار لألموال الفائضة عن الحاجة األساسية كما هو معلوم ولكن لما كانت مسألة االكتناز من المسائل التي يشتد الخالف في مفهومها وتبعا لذلك الخالف في حكمها لم يكن الحديث فيها كافيا في إبراز مكانة االستثمار في منظور الفقه االقتصادي اإلسالمي والسيما وهناك الكثير من األدلة األخرى التي توضح هذه المكانة ال تقل أهمية عن األدلة المتقدمة. االستثمار لغة: االستثمار لغة من الفعل ث م ر قال ابن فارس: «الثاء والميم والراء أصل واحد وهو شيء يتولد عن شيء متجمعا ثم يحمل عليه غيره استعارة«)76( ومن هنا يقال:»ثم ر الرجل ماله إذا أحسن القيام عليه. ويقال كذلك في الدعاء: ثم ر هللا له ماله أي أنماه«)77(. 246 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 246

14 حسام الدين خليل محمد ( ) ولما كانت زيادة السين والتاء في الفعل تدل على الطلب يمكن أن يقال أن االستثمار لغة هو طلب زيادة المال وتنميته ولذا عرفه المعجم الوسيط بأنه:»استخدام األموال في اإلنتاج إما مباشرة )78( بشراء اآلالت والمواد األولية وإما بطريق غير مباشر كشراء األسهم والسندات«االستثمار اصطالحا: من أجمع التعاريف الشرعية وأقربها إلى حقيقة االستثمار تعريف الدكتور: قطب مصطفى سانو حيث عرفه بأنه: «التوظيف الفعلي الموجه للمال الزائد - المدخرات - عن الحاجة بشكل مباشر أو غير مباشر في نشاط اقتصادي ال يتعارض مع مبادئ الشرع ومقاصده وذلك بغية الحصول على عائد منه يستعين به الفرد أو الجماعة على القيام بمهمة الخالفة هلل وعمارة الكون«)79(. الحكم التكليفي لالستثمار: ذهب أكثر الفقهاء إلى أن االستثمار جائز مشروع )80( والدليل على مشروعيته أن هللا تعالى أحل البيع والتجارة كما قال تعالى: و آخ ر ون ي ض ر ب ون ف ي األ ر ض ي ب ت غ ون م ن ف ض ل هللا )المزمل: 20( وقوله تعالى: ل ي س ع ل ي ك م ج ن اح أ ن ت ب ت غ وا ف ض ال م ن ر ب ك م )البقرة: 198(. والريب أن هذه األدلة تدل على الجواز والمشروعية لكن النظر إلى غيرها من األدلة يبين أن حكم االستثمار أيضا هو الوجوب وفيما يأتي استعرض بعض األدلة الدالة على ذلك: األدلة الدالة على وجوب االستثمار: األدلة الواردة في الكتاب والسنة التي تأمر باستثمار األموال تنقسم إلى: أدلة خاصة تتناول استثمار األموال تناوال مباشرا وأخرى عامة تأمر باستثمار كل ما وهبنا هللا تعالى من نعم وهيئ لنا في هذا الكون الفسيح من إمكانات وطاقات فيدخل في ذلك من باب أولى )استثمار المدخرات( ألنها في متناول األيدي والناس أقدر على استثمارها أكثر من قدرتهم على استثمار غيرها مما ط وى في باطن األرض أو أ ودع في أعماق البحار أو ر صد في قمم الجبال فضال عما غ ي ب في السماء بأفالكها وأجرامها ونجومها وكواكبها. وفيما يأتي بعض األدلة على ذلك: الدليل األول: قال تعالى: ه و أ ن ش أ ك م م ن األ ر ض و اس ت ع م ر ك م ف يه ا ف اس ت غ ف ر وه ث م ت وب وا إ ل ي ه إ ن ر ب ي ق ر يب م ج يب )هود: 61(. وجه الداللة من اآلية الكريمة: أن اإلسالم الحنيف يجعل عمارة الحياة هدفا من أهداف خلق اإلنسان واستخالفه في األرض فقوله - سبحانه - و اس ت ع م ر ك م ف يه ا أي طلب منكم أن تعمروها واألصل في الطلب هو الوجوب واستعمار األرض ال يتحقق بغير االستثمار مما يعني أن االستثمار واجب وذلك ألن ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب شرعا ) 81 (. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 247

15 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) الدليل الثاني: قال تعالى: ف اق ر ء وا م ا ت ي س ر م ن ال ق ر آن ع ل م أ ن س ي ك ون م ن ك م م ر ض ى و آخ ر ون ي ض ر ب ون ف ي األ ر ض ي ب ت غ ون م ن ف ض ل هللا و آخ ر ون ي ق ات ل ون ف ي س ب يل هللا ف اق ر ء وا م ا ت ي س ر م ن ه )المزمل: 20(. وجه الداللة من اآلية الكريمة: أن هللا تعالى سوى في األعذار المخففة عن المسلم في قيام الليل بين الجهاد في سبيل هللا والضرب في األرض الستثمار المال في التجارة للنفقة على النفس واألهل. يقول القرطبي:»سوى هللا تعالى في هذه اآلية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحالل للنفقة على نفسه وعياله واإلحسان واإلفضال فكان هذا دليال على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ألنه جمعه مع الجهاد في سبيل هللا«)82(. وإنما نشأت هذه التسوية بين الجهاد في سبيل هللا واستثمار المال ابتغاء فضل هللا ألن الكفاح من أجل التنمية االقتصادية وتحقيق التقدم واجب إسالمي وضرورة مصيرية لنهضة األمة وتحقيق استقاللها وخالصها من التبعية المقيتة ألعدائها فالمال هو عصب الحياة وهو قطب رحى اإلعداد للجهاد وتزويد الجيوش بالسالح والعتاد. الدليل الثالث: عن أنس بن مالك قال: قال رسول هللا - صلى هللا عليه وسلم -: ات جروا في أموال اليتامى ال تأكلها الزكاة رواه الطبراني في األوسط )83( وقال الهيثمي في»مجمع الزوائد«: أخبرني سيدي وشيخي: أن إسناده صحيح )84( - يعني بشيخه: الحافظ زين الدين العراقي )85(. عن يوسف بن ماه ك أن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم- قال: ابتغوا في مال اليتيم - أو في أموال اليتامى - ال تذهبها - أوال تستهلكها - الصدقة رواه الشافعي في مسنده )86( وإسناده صحيح -كما نص على ذلك البيهقي والنووي )87( - ولكن يوسف بن ماهك تابعي لم يدرك رسول هللا - صلى هللا عليه وسلم - فحديثه مرسل ولكن الشافعي عضد هذا المرسل بعموم النصوص األخرى وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم )88(. وصح هذا المعنى موقوف ا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فروى البيهقي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال:»ابتغوا في أموال اليتامى ال تأكلها الصدقة«. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر )89(. ووجه االستدالل بالحديث: أن النبي - صلى هللا عليه وسلم- أمر األوصياء على اليتامى: أن يعملوا على استثمار أموال األيتام وحذ ر من تركه دون تثمير وال استغالل فتأكله الزكاة وتستهلكه واألصل في هذا األمر هو الوجوب ومثل أموال اليتامى كل مال آخر إذ ال فرق بينهما )90(. الدليل الرابع: عن سعيد بن حريث قال: قال رسول هللا - صلى هللا عليه وسلم-: من باع دارا أو عقارا فلم يجعل ثمنها في مثله كان ق م ن ا أن ال يبارك له فيه )91(. 248 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 248

16 حسام الدين خليل محمد ( ) ووجه الداللة من الحديث: هو أن عدم توظيف المال في االستثمار يؤدي إلى نزع البركة منه مما يعرضه للتلف. وما من شك أن هذا ال يكون إال في ارتكاب أمر محرم فيستنتج من ذلك وجوب االستثمار بداللة االلتزام. الدليل الخامس: أن عمر رضي هللا عنه- وهو خليفة للمسلمين كان يدعو المسلمين إلى االدخار من عطائهم واستثماره فروى عنه الب الذ ري )92( في»فتوح البلدان«أنه كان يقول: «فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤالء ابتاع منه غنما فجعلها بسوادهم فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه )93(» )94(. وكان رضي هللا عنه - يقول:«م ن ك ان ل ه م ال ف ل ي ص ل ح ه و م ن ك ان ت ل ه أ ر ض ل ي ع م ر ه ا«)95(. وهذا ألن االستثمار للمدخرات وتنمية الموارد اإلنتاجية أمر ضروري للوفاء بحاجات المجتمع اإلسالمي من الضروريات والكماليات واألمر بذلك هو بكل تأكيد فضيلة من فضائل نظام االقتصاد اإلسالمي )96(. الدليل السادس: يضاف إلى ذلك أن االستثمار من وسائل المحافظة على المال والمحافظة على المال مقصد أساسي من مقاصد التشريع وفي تقرير ذلك يقول الدكتور قطب سانو:»وإذا نظرنا إلى مقاصد الشريعة اإلسالمية العليا فإننا سنقرر أن حكم استثمار بالنسبة لمن توفر على مال زائد على حاجته الضرورية واألساسية هو الوجوب ويعني هذا أن أي مسلم مكلف يحوز ماال زائدا عن حاجاته الضرورية واألساسية فإنه يجب عليه القيام بواجب االستثمار فيه إما بنفسه أو بواسطة غيره نيابة عنه وإال فإنه سيكون عرضة للعقاب األخروي إذا لم يكن له عذر يحول دونه ودون االمتثال بهذا الواجب«)97(. وقد ألمح إلى ذلك اإلمام الشاطبي حيث يقول:»وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في األمالك وكتنميته أن ال يفي«)98( أي أن تنميته أي استثماره- من األسباب الضرورية لحفظه حتى يفي بالحاجات والحاجات متعدة ومتنوعة فهي حاجات على مستوى الفرد وحاجات على مستوى االمة. فإذا انضم إلى ذلك أن خالص األمة من تبعيتها ألعدائها ونهوضها من التخلف االقتصادي والعلمي الذي كبلها منذ عقود أمر مرهون بحسن استثمار مواردها وإمكاناتها وحسن توظيف ذلك في تحقيق نهضة شاملة تعيد إليها مجدها وحضارتها وتضعها مجددا في مصاف الريادة والسيادة على العالم ع لم -بما ال يدع مجاال للشك-: أن حكم هذا االستثمار هو الوجوب الشرعي بحيث يكون استثمار المال وتنميته وفق قواعد الشريعة وأحكامها فريضة من الفرائض الشرعية تناط بعنق كل مسلم قادر عليها. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 249

17 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) الخالصة: وصفوة القول هي: أن كال من االدخار واستثمار المدخرات بناء على األدلة السابقة وانطالقا من توقف تحقق التنمية االقتصادية على ذلك أمر واجب شرعا وضرورة حتمية لألمة اإلسالمية التي يجب أن تكون قوية في سائر المجاالت حتى تكون مرهوبة الجناب قادرة على تحقيق واجب عمارة األرض والخالفة فيها. المطلب الثالث: دور الصكوك اإلسالمية في جذب المدخرات واستثمارها تبين مما سبق أن النظام االقتصادي في اإلسالم يأمر بتعبئة المدخرات وحشدها بفاعلية Mobilization( )Effective في مجاالت االستثمار المشروع بما يحقق األهداف االقتصادية واالجتماعية المرجوة منها ولكن هذا الهدف على نحو فعال قد ال يكون ميسورا لألفراد إما لصغر مدخراتهم أو لضعف قدراتهم وخبراتهم االستثمارية واإلدارية. لذلك كان البد من وجود مؤسسات مالية تقوم بتعبئة مدخرات األفراد المعطلة وتوجيهها إلى استخدامات إنتاجية عن طريق ابتكار منتجات مالية تستطيع أن توفر تمويال متوسطا وطويل األجل يسهم بشكل فع ال في عملية التنمية وفي الوقت ذاته يلبي رغبات المدخرين أصحاب الفوائض في تسييل أموالهم في أي وقت مع الحصول على عائد جيد. ومن هنا جاءت فكرة وأهمية الصكوك االستثمارية اإلسالمية إذ يمكن أن تؤدي هذا الدور المنشود بحيث تكون أدوات مالية قادرة على جذب المدخرات بحيث تستوعب المدخرات الصغيرة كما تستوعب المدخرات الكبيرة دون اللجوء إلى التعامل بالربا الذي آذن هللا مرتكبه بحرب مع استثمارها بفاعلية في إطار أحكام الشريعة وضمن هامش مخاطرة أقل عن غيرها من المنتجات المالية. وحتى تتضح حقيقة الصكوك وعالقتها باالدخار واالستثمار أبدأ بالتعريف بها لغة واصطالحا ثم ألقي الضوء على مشروعيتها وضوابطها الشرعية ومن ثم دورها في جذب المدخرات والمزايا التي يجب أن تتوفر فيها حتى تحقق فاعليتها االقتصادية وذلك من خالل ثالثة فروع على النحو اآلتي: الفرع األول: الصكوك.. حقيقتها وعالقتها باألوراق المالية األخرى الصكوك لغة: الصكوك جمع صك و)الصك( في اللغة العربية يأتي بمعنيين )99( : أحدهما: الضرب يقال: )ص ك ه ( أي ض ر ب ه ومنه قوله تعالى: ف ص ك ت و ج ه ه ا و ق ال ت ع ج وز ع ق يم )الذاريات: 29( أي:»ضربت بيدها على جبينها«)100(. الثاني: الكتاب أي كتاب يثبت حقا في طعام أو غيره وكانت األرزاق والعطايا التي تعطى من بيت المال تسمى )صكاكا( ألنها كانت تخرج مكتوبة يكتب فيها ولي األمر لشخص معين 250 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 250

18 بأنه يستحق كذا وكذا من طعام أو غيره )101(. حسام الدين خليل محمد ( ) وهذا المعنى الثاني للصك بأنه كتاب يثبت حقا هو ما يتفق مع مفهوم الصكوك االستثمارية. الصكوك االستثمارية اصطالحا Sukuk( :)Islamic Bonds - عرفها المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية اإلسالمية )AAOIFI( بأنها:»وثائق متساوية القيمة تمثل حصصا شائعة في ملكية أعيان أو منافع أو خدمات أو في أصول مشروع معين أو نشاط استثماري خاص وذلك بعد تحصيل قيمة الصكوك وقفل باب االكتتاب وبدء استخدامها فيما أصدرت من أجله«)102(. وعرفها الدكتور محمد على القري بأنها:»أوراق مالية قابلة للتداول تثبت ملكية حاملها ألصل مولد لدخل دوري«)103(. وعرفها الدكتور محمد سراج بأنها:»عبارة عن وثيقة بقيمة مالية معينة تصدرها مؤسسة بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها وتستثمر حصيلة البيع بنفسها أو بدفعه إلى الغير لالستثمار نيابة عنها وتعمل على ضمان تداوله وتنضيضه ويشارك المكتتبون في الصكوك في نتائج هذا االستثمار حسب الشروط الخاصة بكل إصدار«)104(. وهذه التعاريف متقاربة من حيث المعنى وإن كانت تتفاوت فيما بينها بسطا واختصارا وأجودها هو تعريف المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة. التعريف المختار: إذا أردنا تعريفا وسطا بين االختصار والبسط فيمكن تعريف الصكوك بأنها:»أوراق مالية متساوية القيمة وقابلة للتداول خالل مدة محددة تمثل ملكية حاملها لحصة في أصل مولد لدخل دوري«أنواع الصكوك: من خالل هذه التعاريف يتبين أن الصكوك تتسع لتشمل دائرة واسعة من األنشطة االستثمارية فهي تشمل «صكوك ملكية األعيان المؤجرة وملكية المنافع وملكية الخدمات وكذلك األنشطة االستثمارية األخرى كالمرابحة واالستصناع والمضاربة والمشاركة والوكالة في االستثمار... )105( «الصكوك االستثمارية واألوراق المالية األخرى: تشارك الصكوك في أسواق رأس المال عدة أوراق مالية أخرى من أهمهما األسهم والسندات وحتى يمكن فهم طبيعة الصكوك االستثمارية والمزايا التي تتفوق بها على غيرها فالبد من فهم أوجه االتفاق واالختالف بينها وبين األسهم والسندات. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 251

19 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) األسهم لغة: األسهم لغة جمع سهم وهو لفظ يطلق في اللغة على معان متعددة منها: ال ح ظ والنصيب ومنها: القدح الذي يقارع به يقال استهم الرجالن: تقارعا وساهم القوم فسهمهم سهما: قارعهم فقرعهم. والسهم: واحد النبل. وهو مركب النصل والجمع أسهم وسهام )106(. وأقرب هذه المعاني لموضوع األوراق المالية: هو الحظ والنصيب. األسهم اصطالحا: ت عر ف األسهم اصطالحا بأنها:»عبارة عن صكوك متساوية القيمة غير قابلة للتجزئة وقابلة للتداول بالطرق التجارية وتمث ل حقوق المساهمين في الشركات التي أسهموا في رأس مالها )107( «. وجوه االتفاق واالختالف بين األسهم والصكوك )108( : يشترك كل من الصك والسهم في األمور اآلتية: 1 أن 1. كال منهما ورقة مالية قابلة للتداول. 2 أن 2. كال منهما يصدر بقيمة اسمية محددة وغير قابل للتجزئة. 3 أن 3. كليهما يمثل ملكية أصول مدر ة لعائد أو المشاركة في رأسمال مشروع مربح. أما االختالف فهو من نواح منها: 1 أن 1. الصك في الغالب ورقة مالية قليلة المخاطرة حيث إن»هيكل إصدار الصكوك يجعل العائد عليها )109( وثمنها في السوق أقل تقلبا ومن ثم يكون قابال للتوقع ومظنة االستقرار«وهذا بخالف السهم فإنه غالبا عالي المخاطرة وعرضة دائما لتذبذب األسعار واختالف قوى العرض والطلب. 2 أن 2. الصك أداة تمويل وعليه فإن حامل الصك هو ممول للشركة وهذا بخالف السهم إذ يمثل حصة شائعة في رأس مال الشركة ومن ثم فإن حامل السهم شريك ومالك لحصة مشاعة في رأس مال الشركة. 3 لما 3. كانت وظيفة الصكوك هي التمويل للجهة المصدرة كانت الصكوك ليست دائمة كما هو الحال في السهم بل كان لها أجل وموعد )إطفاء( استحقاق يتم تصفيتها فيها بالطرق المذكورة في نشرة اإلصدار أما السهم فهو دائم بدوام الشركة التي يمثل حصة فيها. 4 إن 4. نصيب حامل السهم عند التصفية الشركة يمثل نصيبه من أصولها بعد تسديد ما عليها من ديون قل هذا النصيب أو كثر أما الصكوك فإنها مصممة بحيث تمكن حملتها من استرداد رأسمالهم أو قريبا منه عند إطفائها بصرف النظر عن قيمة أصول المصدر للصكوك أو قدرته على سداد ديونه لآلخرين. 252 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 252

20 السندات لغة: حسام الدين خليل محمد ( ) جمع سند و)الس ن د (: ما استندت إليه من حائط أو غيره والمرتفع من األرض وسن د الش يء : دع مه وفالن سند أي معتمد و)اإلسناد( في الحديث رفعه إلى قائله )110(. السندات اصطالحا: عر ف القاموس االقتصادي السندات بأنها:»أوراق مالية تصدرها الدولة أو المؤسسات التزاما بدين ووثيقة عن القرض الممنوح لها تعطي السندات مالكيها حق الحصول على دخل محدد«)111(. وعرفتها الموسوعة االقتصادية السند بقولها:»صك قابل للتداول تصدره الشركة يمثل قرضا طويل األجل يعقد عادة عن طريق االكتتاب العام«)112(. والبد من التنويه هنا إلى أن السبب األصلي لظهور ونشأة الصكوك اإلسالمية يرجع إلى حاجة المجتمع اإلسالمي إلى مصادر تمويلية مستمدة من الشريعة اإلسالمية بديال عن السندات المقترنة بفوائد ثابتة. وجوه االتفاق واالختالف بين السندات والصكوك )113( : تتفق كل من السندات والصكوك في عدة أمور منها: 1 أن 1. كليهما أوراق مالية متداولة وغرضها األساسي سد الحاجة إلى التمويل في الجهات المختلفة. 2 أن 2. كال منهما يصدر بقيمة اسمية محددة ويولد عائدا مرتبطا بهذه القيمة االسمية. 3 يمكن 3. من خالل الصكوك والسندات تنفيذ كثير من الوظائف االقتصادية المهمة كإدارة السيولة النقدية ومعالجة عجز الموازنة العامة وهذه فائدة كبرى تدعم االستقرار االقتصادي فتقل بذلك مخاطر التقلبات النقدية ولذلك يقع الخلط بينهما لدى كثير من الباحثين فنجد أنهم يذكرون كمقابل لكلمة )صكوك( مصطلح )Securitization( مع أن هذا األخير يعني تحويل القروض الربوية إلى أوراق مالية قابلة للتداول فهو مرادف للسندات المحرمة شرعا. 4 كل 4. من الصكوك والسندات ت عد أوراقا مالية ذات استقرار كبير ومخاطر متدنية. وأما الفروق بين الصكوك والسندات فتتمثل فيما يأتي: 1 إن 1. السندات أوراق مالية محرمة شرعا ألنها عبارة عن قروض بفائدة أما الصكوك فهي تمثل حصصا شائعة في ملكية أصل أو مشروع مدر لدخل. 2 إن 2. قيمة الصكوك االسمية ليست مضمونة على مصدرها ومن ثم فال تكون دينا في ذمته وذلك بخالف السندات. 3 عوائد 3. السندات ثابتة وهي دين في ذمة مصدرها وأما عوائد الصكوك فليس فائدة مضمونة في ذمة المصدر وإنما هي ربح مصدره النشاط الذي استخدمت فيه أموال حملة الصكوك. شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 253

21 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) أو اإليراد المتولد من األصول التي يملكونها بموجب الصكوك )114( وهي خاضعة لطبيعة االستثمار وتقلبات السوق ويشترك حامل الصك في الربح كما أنه يتحمل نصيبه من الخسارة. إن الثمرة التي يجنيها الباحث من الوقوف على جهات االتفاق واالختالف بين الصكوك من جهة واألسهم والسندات من جهة أخرى هي أن الصكوك تعتبر بديال شرعيا مقبوال عن السندات التقليدية الربوية وهي في الوقت نفسه تطبيق مبتكر يقترب من فكرة األسهم وهذا ما يكشف عن طبيعة الصكوك بشكل واضح. الفرع الثاني: مشروعية الصكوك وضوابطها اتضح من العرض السابق أن الصكوك هي عبارة عن حصص شائعة في ملكية أعيان أو منافع أو مشاريع استثمارية أو خدمية ومن ثم فحكمها الشرعي هو فرع على حكم هذه األعيان أو المنافع أو المشاريع فمادامت هذه مشروعة فحكم هذه الصكوك من حيث األصل الجواز لكن يبقى النظر في الطريقة التي يتم بها إصدارها وتداولها وإطفاؤها فهذه تحتاج إلى أن يتوفر فيها ضوابط شرعية معينة بحيث تخلو من الربا والغرر والجهالة والمقامرة وسائر المخالفات الشرعية وبيان هذه الضوابط على التفصيل ال يتسع له هذا البحث المختصر لكن يمكن اإلشارة إلى أهم هذه الضوابط )115( فيما يأتي: 1 أن 1. يتم هيكلة هذه الصكوك على أساس عقد من عقود االستثمار الشرعية ويجب أن تتضمن نشرة إصدار الصكوك تحديد العقد الذي تصدر الصكوك على أساسه كبيع العين المؤجرة أو اإلجارة أو المرابحة أو االستصناع... إلخ وأن يكون العقد الذي أصدر الصك على أساسه مستوفيا ألركانه وشروطه وأن ال يتضمن شرط ا ينافي مقتضاه أو يخالف أحكامه. 2 ينحصر 2. جواز التصكيك في األعيان والمنافع والخدمات وذلك بتقسيمها إلى حصص متساوية وإصدار صكوك بقيمتها. أما الديون في الذمم فال يجوز تصكيكها لغرض تداولها لما في ذلك من ارتكاب الربا المحرم )116(. 3 أن 3. ال يضمن مصدر الصك لمالكه قيمة الصك االسمية في غير حاالت التعدي أو التقصير وال يضمن له كذلك قدرا معينا من الربح لكن يجوز أن يتبرع بالضمان طرف ثالث مستقل كما يجوز أن يقدم مصدر الصك لمالكه بعض الضمانات العينية أو الشخصية لضمان مسؤوليته في حاالت تعديه أو تقصيره. 4 ال 4. يجوز تداول الصكوك إال بعد قفل باب االكتتاب وتخصيص الصكوك وبدء النشاط أما قبل ذلك فتراعى الضوابط الشرعية لعقد الصرف. 5 ال 5. يجوز تداول صكوك ملكية منافع األعيان الموصوفة في الذمة أو الخدمات الموصوفة في الذمة قبل تعيين العين أو الطرف الذي تستوفى منها المنفعة. 6 يجوز 6. استرداد صكوك ملكية الموجودات المؤجرة من مصدرها قبل أجلها بالسعر الذي يتراضى عليه حامل الصك ومصدره حين االسترداد. 254 شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 254

22 حسام الدين خليل محمد ( ) 7 أن 7. ينص في النشرة على االلتزام بأحكام ومبادئ الشريعة اإلسالمية وعلى وجود هيئة شرعية تعتمد آلية اإلصدار وتراقب تنفيذه طوال مدته. الفرع الثالث: دور الصكوك اإلسالمية في جذب المدخرات وكيفية تفعيلها اقتصاديا قد كان المتوقع أن المصارف اإلسالمية من أهم المؤسسات التي يمكن أن تقوم بحشد المدخرات وتوجيهها للتمويل ولكن لم تستطع المصارف النهوض بهذا الدور بفاعلية حيث توجهت غالبية التمويالت التي قدمتها إلى قطاعات محددة اتسمت غالبا بقصر األجل نظرا لحاجة هذه المصارف الدائمة إلى السيولة األمر الذي ال يستطيع أن يسهم بشكل فعال في التنمية التي تتطلب تمويال متوسطا وطويل األجل مما أدى إلى لفت األنظار إلى أهمية ابتكار أدوات مالية يمكن االعتماد عليها في تأدية هذا الدور وفي الوقت نفسه تحظى بقبول شرعي بحيث يمكن من خاللها الجمع بين رغبة المدخرين في االستثمار الحالل والحصول على عائد جيد ورغبتهم في تسييل أموالهم في أي وقت وبين المؤسسات والمنشآت التي تحتاج إلى تمويل متوسط وطويل األجل بتكلفة مقبولة. وهنا برز دور الصكوك اإلسالمية إذ إنها تحقق هذا الدور بفاعلية ال يمكن تحقيقها من خالل األسهم والسندات: فالسهم يمثل حصة شائعة في ملكية الشركة وحامل السهم شريك وليس مموال وقد تكون الشركة غير راغبة في هذه المشاركة وكذلك حامل السهم الذي قد تؤدي به هذه المشاركة إلى نوع من المخاطرة يفضل االبتعاد عنها وإنما دعت حاجة الشركة إلى زيادة رأس مالها وحاجة حامل السهم لالستثمار أمواله إلى الدخول في هذا النوع من المعامالت والذي قد ال يكون متاحا غيره. أما الصك فهو يتيح فرصة أخرى أكثر فاعلية ومباحة شرعا يكون حامل الصك فيها مموال فقط ويستفيد من هذا التمويل الحصول على عائد مستقر إلى حد كبير وعند نهاية التمويل يحصل تقريبا على مقدار ما دفع وربما أكثر أي أنه ال يتعرض للمخاطر العالية التي يتعرض لها المساهمون. وأما السند وإن كان يمثل أداة من أدوات التمويل المرنة التي تتيح لحامله تسييله في األسواق المالية متى رغب في ذلك إال إنه هو يمثل حصة من قرض ربوي بفائدة فهو محرم لذلك أما الصك فهو يمثل أداة تمويلية تتمتع أيضا بنفس المرونة التي يتمتع بها السند فيستطيع حامل الصك تسييله متى رغب في ذلك وهو ليس محرما ألنه يقوم على المشاركة في الربح والخسارة وليس على اإلقراض بفائدة. وبهذه الخصائص التي تتمتع بها الصكوك يمكن من خاللها -سواء على المستوى المحلي أو المستوى العالمي-تعبئة المدخرات المالية الموجودة بيدي األفراد والتي هي عاطلة عن القيام بوظيفتها االقتصادية ودورها التنموي مما يؤدي إلى استثمارها في المجاالت الزراعية والصناعية والتجارية التي تعبر عن مدى التقدم والتخلف في البالد. ويتأكد ذلك بالنظر إلى ما تعانيه المجتمعات اإلسالمية من فقر وتخلف بالرغم من ثراء األمة اإلسالمية ماديا ومعنويا ففي العمل على استغالل الفوائض المالية من الدول الغنية واستثمارها شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 255

23 256 استثامر املدخرات ودور الصكوك اإلسالمية يف ذلك دراسة رشعية مقاصدية اقتصادية ( ) بفاعلية في الدول الفقيرة من خالل صكوك استثمارية قادرة على عبور القارات وتخطي الحدود ما يعتبر من أمثل أساليب وطرق محاربة الفقر والتخلف ومواجهة تحديات القرن االقتصادية وتحقيق التنمية المستدامة في مختلف بالد العالم اإلسالمي. في هذا الصدد يمكن للحكومات عن طريق الصكوك أن تقرم بإنشاء محطات لتحلية المياه أو توليد الكهرباء أو بناء جسور أو تشييد جامعات أو تمهيد طرق إلى غير ذلك من مجاالت التنمية دون اللجوء لالقتراض من الدول األخرى ومن ثم تتجنب الوقوع في الحرام واآلثار االقتصادية والسياسية السلبية لالقتراض الخارجي. وفي هذا الصدد ظهرت أنواع من الصكوك مثل»سندات المقارضة«)117( وهو اصطالح جديد طرح ألول مرة عام 1977 م. وفي عام 1983 م صدر في تركيا نوع جديد من الصكوك اإلسالمية وهي»سندات المشاركة«وقد كانت مخصصة لتمويل بناء جسر البوسفور الثاني )118(. كما ظهرت صكوك اإلجارة وأصدر فيها مجمع الفقه اإلسالمي قرار يتضمن ضوابطها )119(. ولم يقتصر استخدام الصكوك اإلسالمية على مستوى البالد اإلسالمية, بل انتشر إلى بعض الدول األوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا )120(. المزايا التي يجب أن تتوفر في الصكوك حتى تحقق فاعليتها االقتصادية: حتى تحقق الصكوك فاعليتها االقتصادية البد وأن تتوفر فيها مزايا معينة يمكن اإلشارة إليها من خالل النقاط اآلتية: األولى: انضباطها بالضوابط الشرعية السابقة واالبتعاد عما فيه شبهة فهناك جمهور واسع من المستثمرين المسلمين يعزفون عن التعامل بأي معامالت تدور حولها شبهات تقدح في شرعيتها. الثانية: إمكان خفض قيمة الصك المالية بما يتيح لصغار المدخرين وكبارهم على حد سواء امتالكه أو امتالك عدد منه على قدر مدخراتهم ولقد كشف الواقع االقتصادي أن فاعلية العملية االدخارية ال ترتبط وال تعتمد فقط على األغنياء أصحاب الفوائض المالية الكبيرة بل تعتمد أيضا وبشكل كبير على صغار المدخرين من أصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة بل إن مجموع مدخراتهم قد يتفوق في كثير من الحاالت على المدخرات المج م عة من األغنياء أصحاب الدخول المرتفعة وذلك القتناع صغار المدخرين بأهمية االدخار واستثمار المدخرات في زيادة دخولهم ومواجهة أعبائهم المالية )121(. الثالثة: إمكانية تنويع هذه الصكوك بحيث تكون ذات أنشطة مختلفة ودرجات مخاطر متفاوتة وتواريخ إطفاء انتهاء- متنوعة بما يتالءم مع أكبر قطاع ممكن من المستثمرين. الرابعة: تحقيق هذه الصكوك للكفاءة االقتصادية والتي تعتمد ابتداء على دراسة جدوى المشروع الذي تستند إليه هذه الصكوك وإمكانية تحقيق عوائد وأرباح منافسة لنظيراتها من األدوات التقليدية. الخامسة: تمتع األصول التي تساندها بدرجة أمان كافية ضد المخاطر غير التجارية كالكوارث شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 256

24 الطبيعية والحرائق ونحو ذلك. حسام الدين خليل محمد ( ) السادسة: إنشاء سوق ثانوي يمكن فيه تداول هذه الصكوك بما يتوافق مع أحكام الشريعة ويكفل تسييلها في أي وقت يرغب حاملوها في ذلك )122(. في ختام هذا الفرع البد أن أشير باختصار إلى بعض األرقام التي تشير ولو بشكل تقريبي- إلى حجم المدخرات التي تم تجميعها بغرض االستثمار من خالل إصدارات الصكوك اإلسالمية. فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن حجم اإلصدارات من الصكوك اإلسالمية بلغ على المستوى العالمي للعام 2003: )5. 717( بليون USD وارتفع حجم اإلصدار للعام الذي يليه ليصل إلى )7. 210( بنسبة نمو تساوي تقريبا )26. 12%( وفي العام 2005 بلغ حجم اإلصدار.12( USD)065 و.26( )797 USD للعام 2006 بنسبتي نمو.67( )33% و) %( للعامين على التوالي )123(. وقد بلغ حجم إصدار الصكوك في دولة قطر )124( في عام 2003: )700( مليون USD وفي عام 2010 تم إصدار: )1. 093( مليون ا أي بنسبة نمو 50% وفي عام 2011 ارتفع إصدار الصكوك إلى ) ( أي تضاعف حجم إصدار الصكوك إلى ما يزيد عن تسع مرات بينما انخفض إصدار الصكوك في 2012 إلى )4000( فقط ولعل هذا راجع إلى أن الصكوك المصدرة في كل من عامي 2010 و 2011 كانت بحجم كبير ولم يتم إطفاؤها بعد )125(. وأما في إمارة دبي فقد بلغ حجم إصدار الصكوك فيها في عام 2004: )1. 065( مليون ا وفي عام 2005: )950( بينما وصلت في عام 2006: )7. 020( أي تضاعف بما يزيد عن سبع مرات وفي عام 2007 سجلت )1. 350( وفي عام 2008: )1. 731( وفي عام 2011: انخفضت إلى )650( وفي عام 2012 عاودت االرتفاع إلى: )1. 422(. وهذا كله ال شك أنه يعكس بوجه إجمالي المقدار الكبير من المدخرات التي ج ذ ب ت لالستثمار من خالل الصكوك. وفيما يأتي هذا الشكل الذي يلقي مزيدا من الضوء على تزايد حجم المدخرات التي ج ذ ب ت لالستثمار من خالل إصدارات الصكوك المختلفة وهو يعقد مقارنة بين حجم إصدارات الصكوك في منطقة الخليج مقارنة بباقي دول العالم خالل عامي 2005 و 2006 م. شكل )1( شعبان 1435 ه يونيو 2014 م مجلة جامعة الشارقة للعلوم الرشعية والقانونية املجلد 11 العدد indd 257